لقد كان أمراً ساراً أن تلاقي مقالة "التحرش الجنسي الذي تواجهه المرأة أثناء تقديمها على وظيفة" اهتماماً واسعاً من طبقات مختلفة من المجتمع. في الحقيقة ليس أمراً شائعاً أن تجتمع مشارب فكرية مختلفة على تقبل فكرة بذاتها خصوصاً أننا لا نرى كثيراً وجود توافق فكري بين فئات معينة مثل من يسمون أنفسهم بـ"المتدينين" ومن يحبّون أن يطلقوا على أنفسهم "الليبراليين".
ولكن رغم الاختلاف الظاهري بين كثير من الفئات الثقافية في مجتمعنا إلا أنه طالما أنهم ينتمون لثقافة واحدة فإنه من غير المستغرب أن يجتمعوا في أفكار معينة تجعلنا نشعر بنوع من الأمان أنه مازال هناك أمل سخي في تقابل الأطراف الفكرية المختلفة في حوار تناغمي يفيد الجميع. لذلك بودي أن أشكر جميع القراء والقارئات والكتاب الصحفيين الذين استفدت من آرائهم الكثير حول مقالتي السابقة.
ومع أني لا أعقّب في العادة على مقالة سابقة إلا أني أعتقد أن هناك عدة آراء مثيرة طرحت حول تلك المقالة وقد يكون من المفيد مناقشتها بشكل موسع. رغم أني شاكرة لجميع من تفاعل مع المقالة إلا أني أجزم أن البعض قد فهمها بشكل مختلف عن المقصود. فمثلا هناك من يظن أني كنت أنادي بعدم إتاحة فرصة العمل للمرأة ظناً منهم أن مكانها الوحيد هو المنزل فحسب والبعض الآخر اعتقد أني ضد العمل في مكان مختلط مع الرجل، وهناك من يعتقد أني أجد الرجل في الثقافات الأخرى أكثر اتزاناً من الرجل العربي. هذه في الحقيقة أبرز الأفكار المغلوطة التي وصلتني.
التحرش بالمرأة العربية هو أمر تعيشه تقريبا معظم النساء وعلى درجات مختلفة على حسب ظروفهن وشخصياتهن. فالمرأة العاملة قد تشتكي من زميلها الذي يضايقها بنظراته وملاحقته لها بينما تشتكي المرأة غير العاملة من نظرات الرجال في الشارع وهي تسير مع زوجها أو أحد أقاربها، ومن المضايقات السخيفة التي تمر بها بعض النساء مع أصحاب البقالات أو المحلات التجارية أو أحيانا مع أحد أفراد العائلة الممتدة ممن ليسوا من محارمها.
لذلك فعمل المرأة من عدمه ليس عاملا حاسماً في تعرّض المرأة للتحرش أو سلامتها منه لأن المشكلة ليست في عمل المرأة بل في العقلية الذكورية والثقافة الشعبية التي تربي الولد والبنت على نظامين أخلاقيين مختلفين. فالولد العربي في الغالب يتربّى على أساس أنه يجب ألاّ يستحي لأن من صفات الرجال الجرأة والإقدام وأن يظهر رجولته كلما سنحت له الفرصة حتى لا يستضعفه الأولاد الآخرون ولكي يخافوا منه، بينما الفتاة العربية تُربى على الحياء والخوف والسكوت والطاعة والخنوع وأن تتّبع رغبة الولد فيما يريد وأن تتقبل منه الإهانة، وأحيانا تقبل الضرب خصوصا إن كان المعتدي ذكراً، لأنه بالتأكيد لم يقدم على ذلك إلا لأنها أخطأت سواء عرفت الخطأ أم غاب عن عقلها!
إني على يقين بأنه من النادر أن نقابل عائلة عربية تقول إننا ندرّس أطفالنا على تعاليم تقتضي أن يعتدوا على النساء، وأتوقع أنه لا يوجد عائلة صحية تفعل ذلك. لكن الثقافة الشعبية هي أمر خفي يعيش ويكبر معنا ومنها نتعلم ونفهم كيف نتصرف ومتى نتحدث وطريقة تعاملاتنا مع الآخرين بأسلوب المحاكاة الذي نراه بأعيننا أو نسمع به إما بشكل مباشر عن طريق الإرشاد والنصح وهذا تأثيره بسيط نسبيا، أو بشكل غير مباشر عن طريق القصص والعبر الضمنية وهذا تأثيره أقوى.
وعليه فإن الولد يكبر وهو يشعر أنه أعلى قيمة من البنت، بل ويعتقد بشكل كبير أنها خلقت من شيء آخر، وهذا يجعله يظن أنها تفكّر وتشعر وتعيش بشكل مختلف عنه وكأنها مخلوق من كوكب آخر وهذا ما يدفعه إلى أن يتجرأ عليها أكثر.
والبنت كذلك تكبر وعقدة الدونية والخوف والتردد والرهبة تسكن قلبها، فتظهر سيدة ضعيفة في شخصيتها أو قليلة حيلة أو مترددة فتكون بذلك فريسة سهلة تنتظر الهجوم والدمار لأنها غير قادرة على الحياة باستقلالية.
تحياتي أبو ملاك